سورة النساء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)}.
التفسير:
تحمل سورة النساء كثيرا من الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنسانى.. بين الرجال والنساء، وبين اليتامى والأوصياء، وبين الورثة والمورّث، كما تضمنت حدودا وأحكاما في شأن الزواج، والمهر، وقوامة الرجل على المرأة، والجهاد في سبيل اللّه.. إلى كثير غير هذا، مما ضمت عليه السورة الكريمة.
والمجتمع الذي لا تتماسك فيه روابط الأخوة الإنسانية، ولا تسرى في كيانه مشاعر الرحمة والمودة التي تنتظم أفراده، هو مجتمع هزيل العود، متداعى البناء، لا يثبت لأقلّ هزّة تمرّ به، أو يقوم في وجه أية عاصفة تهبّ عليه!.
ولهذا كان هذا النداء الكريم الذي بدأت به السورة الكريمة دعوتها إلى الناس جميعا- جامعا تلك المشاعر التي تربط الإنسان بالإنسان، وتضمه إليه، وتؤاخى بينه وبينه.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ} النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم.
{اتَّقُوا رَبَّكُمُ} فإن تقوى اللّه، ومراقبته، وملء القلب خشية له، والولاء لجلاله وعظمته- هى ملاك الأمر كله، في إقامة الإنسان على طريق الحق والخير، وفى الوصول به إلى درجات عالية، في منازل الكمال البشرى، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر.
{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة اللّه، وحكمته ورحمته.. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر، هى ثمرة بذرة واحدة، أنبتها اللّه بحكمته، ونفخ فيها من روحه، فأعطت هذا الثمر الكثير، المختلف الألوان، المتعدد الطعوم، المبثوث في كل أفق.
{وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} أي وخلق من هذه النفس، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس، مقابلا لها، ومكمّلا لوجودها.
والقصّة التي تقول إن {حواء} خلقت من ضلع آدم، هى من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسّرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها.
والآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده.. وإنا إذ ننظر في قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} لنجد الضمير في {منها} الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو آدم وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه، التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى- في آية أخرى- {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} [8: النبأ].. وليس هذا في خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره اللّه لخلق الكائنات الحية كلها، من حيوان ونبات.. ومن يدرى فربّما كان ذلك في عالم الجماد أيضا، وفى هذا يقول الحق جلّ وعلاء: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [49: الذاريات] ويقول سبحانه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [7: ق]. فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم وحواء كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟.. ذلك ما لا مفهوم له في علم، ولا معقول له في عقل! إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما في أصل الخلقة، بل تجعلهما طبيعة واحدة، كان منها الذكر والأنثى، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [195: آل عمران] وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [36- 39: القيامة] ففى قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل في كيانه طبيعة الذكر والأنثى، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى، ففى الذّكر، ذكر وأنثى وفى الأنثى أنثى وذكر.
وذلك ما يقرره العلم الحديث، ويزكيّه القرآن العظيم.
ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول في خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء.
فى الإميبيا حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام في الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا، وهو الذي نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة في سلسلة التطور، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت الإيميبيا التي تتوالد بالانقسام!.
{وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} أي من هذين المخلوقين، الزوجين:
الذكر والأنثى، تكاثر الناس وانتشروا، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم، وصنعة العليم الحكيم.
فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم اللّه سبحانه وتعالى أن يتّقوه.. أن يتّقوا ربّهم، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته، في أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات، إلى عالم النطف.. ثم إلى الإنسان المسوّى في أحسن تقويم.
وكلمة {ربّهم} هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو في دور الخلق والتكوين.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ}.
وهذا نداء آخر من قبل الحق، يدعو به عباده إلى التّقوى، بعد أن ناداهم بها {ربّهم} وهم عالم الخلق والتكوين.. إنهم هنا بشر سوىّ، يعقل ويفهم، ويدرك.
يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة، بل تنقّل في أطوار عديدة، تحت رعاية رحيمة، وبيد حكيمة.. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر.
ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية، المحمود وحده عليها.
ومن أجل هذا كانت تقوى اللّه، وخشيته، والولاء له، أمرا لازما، منوطا في عنق الإنسان، لربّه وإلهه. وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب، ويدعوه إليه، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق، فقد خاب وخسر!
وفى قوله: {الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ} إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان الإنسان كلّ إنسان، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى اللّه والبحث عنه، والمساءلة به، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ففى كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن اللّه، والمساءلة عن ذاته وصفاته.
فالبحث عن اللّه، والسؤال عنه، والمساءلة به، أمر شغل الإنسان- كل إنسان- منذ كانت الإنسانية، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود، وأدارت بصرها فيه، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض، وفيما بين السماء والأرض.
فاللّه- سبحانه- يملأ على الإنسان وجوده كله، ويطرق حواسّه كلّها، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها، فيما بثّ اللّه في هذا الوجود، من روائع صنعته، وآيات خلقه، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه، أو التفلّت منه، وحبس الحواس، والمشاعر، والمدارك، عن الاشتغال به، فلينظر المرء أىّ إنسان هو؟ إن أراد أن يكون في الناس، أو أن يكون من الناس.
{وَالْأَرْحامَ}.
قرىء قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} بالنّصب عطفا على قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بمعنى اتقوا اللّه والأرحام.
وتقوى الأرحام هى من تقوى اللّه، فكما أن للّه حقوقا، ينبغى رعايتها والحرص عليها، فكذلك الأرحام- وهم الأقارب، ومنهم الأبوان- لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها، إذ كان لهما شأن في تربية الإنسان ورعايته.
فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه، هو وفاء لحقوق لهم عليه، وأداء لدين أقرضوه إياه، وقد آن أوان استقضائه منه، حين قدر وعجزوا، وملك ولم يملكوا.
وفى الجمع بين اتقاء حقوق اللّه، وحقوق ذوى الأرحام لفتات.. منها:
أولا: التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم، وأنّ في رعايتها مرضاة للّه، واستكمالا لتقواه.
ثانيا: الإلفات إلى حقوق اللّه، وأنها حقوق عظيمة، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها، وأن الغفلة عنها، أو التفريط فيها عدوان على اللّه، وكفران به وبنعمه، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه، ويرعى ذوى رحمه، بدواعى الانتساب إليهم، فإن حبّه للّه، ورعايته لحقوقه، بالتزام تقواه- أوجب وألزم، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل، وما سواه تبع وإضافىّ.
كذلك قرىء قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} بالجرّ، عطفا على الضمير في {به} في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} بمعنى واتقوا اللّه الذي تساءلون به وبالأرحام، أي الذي هو ملء خواطركم وأفكاركم، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم. فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه، ويجرى في خاطره، هم أهله وقرابته، وربما شغل الإنسان بأهله عن اللّه، وهذا ما نبّه اللّه سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه في قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} [24: التوبة] ويقول تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [200: البقرة].. ومع هذا فإن القراءتان- بالنصب والجرّ- يكملان بعضهما- ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل، في الجمع بين تقوى اللّه، وبرّ ذوى الأرحام.. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى اللّه، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ اللّه عنده. والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا، فلله حقوق يجب أن يؤديها، وللأهل حقوق ينبغى أن يرعاها، وهو ملوم إن قصّر في حق على حساب الحق الآخر.


{وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)}.
التفسير:
التطبيق العملي للتقوى بشقّيها- تقوى اللّه، وتقوى ذوى الأرحام- يكون أكثر ما يكون ظهورا في رعاية حقوق الضعفاء من ذى الأرحام، وهم اليتامى، حيث يكون اليتم غالبا في كفالة أحد أقاربه.
ولهذا كان أول اختبار عملىّ للتقوى التي دعا اللّه إليها في مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى، واتقاء اللّه فيهم، وفى أموالهم التي هى أمانة في أيدى الأوصياء، كما أنهم هم أنفسهم أمانة في ذمة هؤلاء الأوصياء.
فلا تبرأ ذمة الوصىّ حتى يؤدّى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر اللّه أن تؤدّى عليه.
وقد خصّ الأمر الإلهى المال بالذكر، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه، هو المال، وما سواه فهو تبع له.
فلو أن الوصىّ عفّ عن مال اليتيم، وراقب اللّه فيه، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو- لو أنه فعل ذلك لا استقام أمره كلّه مع اليتيم، فبذل له من الحبّ والعطف، ما ينعش نفسه، ويطيّب خاطره، ويعدّل سلوكه.
والعكس صحيح، فإنه حين تمتد عين الوصىّ إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم، وأن يسومه الخسف والهوان، وأن يرخى له الحبل في طريق الضلال والفساد، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله، واستمرأه.
وفى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصىّ، أو بلغ رشده واستحق أن يتولىّ أمر نفسه.
وعلى هذا، فليذكر الوصىّ دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم، وأنه أمانة في يده، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها في كل يوم، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب.. وهذا ما يجعله في مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا، غير منتظر هذا اليوم البعيد، الذي قد يمتد إلى سنين، حين يبلغ اليتيم رشده، ويحين وقت الحساب!.
{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}.
نهى بعد أمر.. وفى هذا النهى، وبالامتثال له، يتحقق الأمر، ويجىء الوفاء به على وجه مرضى سليم.
والخبيث، هو أكل مال اليتيم، وتضييع حقوقه، وإفساد مصالحه أو تفويتها، إهمالا وتقصيرا.. عن عمد أو غير عمد.
والطيب، هو رعاية مال اليتيم، وحسن القيام عليه، وتحرّى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره.
وتبدّل الخبيث بالطيّب، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال.. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره اللّه به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ}.
هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، في شأن اليتامى الذين في أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون في تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حرّاس له.
{إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً}.
الحوب الذنب والإثم.. والضمير في {إنه} يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء في أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم.. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين.


{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)}.
التفسير:
الذي ينظر في الآية الكريمة نظرة مجرّدة، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات، لا ينكشف له وجهها، ولا يستقيم له معناها.. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها، وتخبطهم في التوفيق بين شرطها وجوابها.
فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان في اليتامى- هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء.
والأمر في ظاهره، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء.. فالعدل في اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع،، إذا أخذ على إطلاقه، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم، والجور على ماله، وفاء لمطالب الزواج والأولاد الكثيرين، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد.
ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى، من السورة، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى اللّه في محارمه، وتقواه في ذوى الأرحام عامة، وفى الأيتام منهم خاصة.
وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية- دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم، وأن يؤدوها إليهم كاملة، لا تفريط فيها، ولا عدوان عليها.
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} يجىء قول اللّه هذا، تأسيسا على ما أمر به في الآية السابقة، وتقريرا له.
فقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا.. الآية} هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا، وإلزام لهم أن يستجيبوا له، إن كانوا مؤمنين حقا، لأنه أصل من أصول الإيمان، ودعامة من دعائمه.
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر، إذا هم فعلوه، عظم أجرهم، واستقام على التقوى طريقهم، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات، إلى زواج غيرهن من النساء.. فذلك أبعد للشّبه، وأقطع لنوازع الطمع في ما لهنّ.
وعلى هذا يكون المعنى هكذا.
أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى، أن تأكلوا أموالهم بالباطل، تريدون بهذا مرضاة اللّه، وتبتغون رضوانه- فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات في أنفسهن، بعد أن خفتم ظلمهن في مالهن.. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ في أيديكم، لا يملكون من أمرهن شيئا، وإن لكم في غيرهن من النساء ما تشاءون.. مثنى وثلاث ورباع، ففى هذه التوسعة لكم في زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم اللّه عليكم، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات، وما في الزواج بهن من حرج.
وفى قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج: من {ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} أي البالغات، الصالحات للزواج، اللائي تشتهين النفس.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} دعوة إلى العدل بين الزوجات، والتسوية بينهن في الحقوق والواجبات، وفى هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها.
وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلا كاملا- أمرا غير ممكن، وإن أمكن في حال فلن يمكن في جميع الأحوال- إذا كان ذلك كذلك، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان في دينه، فلا يظلم، وسلامته في نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف- هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً}.
وفى قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب في التزوج بأكثر من زوجة! فهناك الإماء وهن ما ملك المرء من الجواري، فله أن يتمتع بما شاء منهن.
وفى قوله سبحانه: {ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة، أو التسرى بالإماء.
والعول: الميل، يقال عال الميزان عولا، أي مال.
والعول: الزيادة، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة في الظلم، أو الزيادة في كثرة الأولاد والنفقات.
وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها.. الزيادة في الظلم، والزيادة في العيال والنفقة، ثم الحاجة والفقر! وقد يسأل سائل: أليس في التسرى بالإماء كثرة في العيال، وكثرة في النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟
والجواب على هذا، هو أن التسرّى بما ملكت اليمين، لا يزيد في أعباء الحياة على من تسرّى بما ملكت يمينه منهن، إذ كنّ في كفالته، قبل التسرى وبعده.
وقد أجيب عن كثرة العيال، بأن الإنسان لا يحرص على طلب الولد من أمته، ولا يتحرّج في العزل عنها، برضاها أو بغير رضاها.
ولا بد هنا من كلمة حول تعدد الزوجات، وإباحة الإسلام له، ومقولات الذين يرجمون الإسلام بمفترياتهم عليه، في شأن هذا التعدد.
تعدد الزوجات: ضوابطه، وحكمته:
إن الذين يشغبون على الإسلام، ويشوشون عليه.. يقولون فيما يقولون عن هذا التعدد: لما ذا يباح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، وأن يجمع بين أكثر من واحدة إلى أربع، ولا يباح للمرأة أن تتزوج أكثر من رجل، وأن تجمع بين أكثر من رجل إلى أربعة؟ أليس هذا هو العدل والمساواة.. إن كان عدل ومساواة؟
ونقول: إنه لكى ننظر إلى هذه المسألة، نظرا صحيحا مستقيما، ينبغى أن ننظر إليها من جانبيها معا.. جانب المرأة وجانب الرجل، كلّ على حدة، ثم كلّ في مقابل الآخر:
ففى جانب المرأة نجد:
أولا: أن الطبيعة قد جعلت مواليدها من الإناث أكثر من الذكور، سواء ذلك في عالم الإنسان، أو الحيوان والطير.. وحتى في النبات.
وقد يكون هذا التدبير المتصل بأصل الحياة، لكى تتكاثر المواليد، وتعمر هذه الأرض، إذ كانت الإناث هى الوعاء الحامل للمواليد، وعلى قدر هذه الأوعية وكثرتها يكون النسل وكثرته.
ثانيا: هذه الحروب- وهى سنّة من سنن الحياة البشرية- تذهب بكثير من الرجال، الأمر الذي إذا أضيف إلى سابقه قلّت به نسبة الرجال إلى النساء، إلى درجة بالغة الخطر، إن لم يكن هناك عامل آخر، يوازن هذا العامل ويقلل من خطره.
ونسأل: إذ لم يكن هناك عامل معدّل لهذا التفاوت البعيد، في النسبة بين أعداد النساء وأعداد الرجال- فأين يذهب هذا العدد العديد من النساء، اللائي لا مقابل لهن من الرجال؟
جواب واحد لا غير لهذا السؤال: هو أن يمتن عانسات إذا تعفّفن- وقليل ما هنّ، أو يحيين حياة بهيمية، مباحات لكل رجل، إذا استجبن لغريزتهن- وما أكثرهن! أفهذا؟ أو أن تسكن المرأة إلى رجل مع أخرى غيرها أو أخريات، متحصنة في بيت الزوجية، مستظلة تحت جناح رجل يحميها، ويغار عليها، ويخرس قالة السوء فيها؟
ثم لنسأل:
وهل مع هذه الإباحة المطلقة، وجد الرجال فرص الحياة وظروفها، مؤاتية لهم، فسكن الواحد منهم إلى أكثر من واحدة؟
إن الواقع يشهد بأن أفرادا قلة- يعدّون في حكم الشاذ- هم الذين استعملوا حق الإباحة هذا.. أما الغالبية العظمى من الرجال فقد رغبوا عن هذا المباح، واكتفوا بامرأة واحدة، قطعوا الحياة معها.. بل وما أكثر الذين تتوفى زوجاتهم ثم لا يتزوجون بعدهن، وفيهم بقية شباب وصحة! إن التعدد- الذي أباحه الإسلام- لم يمكن على سبيل الإلزام، وإنما كان بابا من أبواب الرحمة، تفيد منه المرأة- غالبا- أكثر مما يستفيد منه الرجل، حين لا تجد المرأة طريقا تسكن فيه إلى رجل، إلّا مع أخرى أو أخريات، يشاركنها الحياة الزوجية معه.. فهى في هذه الحياة- على ما بها- خير من حياتها بلا رجل! ثم نسأل أيضا:
أهناك- في هذه الإباحة- ما يرغم المرأة على أن تشارك غيرها في الزوج، أو يشاركها غيرها فيه؟
إن للمرأة الأولى أن تطلب الطلاق إذا تضررت من المرأة الثانية، كما أن للمرأة التي يراد لها أن تكون ثانية- لها أن ترفض الزواج من هذا الزوج.
وهكذا في الثالثة والرابعة! ثم إن لأىّ امرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون العصمة بيدها.
الأمر الذي يفتح لها الطريق إلى الخلاص من الزواج إذا تضررت منه! وندع المرأة.. وننظر في جانب الرجل، فنجد:
أولا أن الرجل يحتفظ بقوته وحيويته مدة أطول من المرأة، التي تسبقه إلى الوهن والضعف، بما تعانى من الحمل، والولادة، والرضاع، والتربية.
وفى هذه الحال، قد يرى بعض الرجال أن يمسكوا بالزوجة- على ما بها- وأن يحصنوا أنفسهم، ويحفظوا دينهم ومروءتهم بزوجة أخرى.
وثانيا: قد تصاب المرأة بمرض يعجزها عن الوفاء بحاجة الزوج والقيام على شئون البيت، وهنا تبدو الحاجة إلى امرأة أخرى، تؤدى الوظيفة التي عجزت عنها صاحبتها، وعندئذ يكون من الإعنات والحرج معا أن يحجر على الرجل، فلا يجد سبيلا إلى الخروج من هذا الوضع الأليم!
وفى إباحة الزواج للرجل بامرأة أخرى، ما يتيح له في تلك الحال أن يفكر تفكيرا هادئا عاقلا، وأن يتخيّر لنفسه أي الأمرين أصلح له.
الزواج بامرأة أخرى أو الصبر على ما هو فيه؟ وكثيرا ما يكون الأمر الأخير هو الرأى الراجح، الذي يميل إليه، ويأخذ به في أغلب الأحوال، رعاية للعشرة الزوجية، ووفاء لحقّ ما بين الزوجين، من ألفة ومودة.. وذلك حين يكون للرجل- بسبب هذه الإباحة- فضل، يتعزّى به، ويترضّى إنسانيته، بما كان منه من إيثار وتضحية!! بقي أن ننظر إلى هذا الموقف من جانب آخر، وهو أن يغلق في وجه الرجل باب الخلاص من هذا الضيق، الذي يعيش فيه تحت سلطان الإلزام والقهر، دون أن يكون للإختيار، والشعور بمعاني التضحية والإيثار، مكان هنا، إزاء هذا الإلزام القاهر، الذي يحكم عليه فيه بأن يعيش مع امرأة مريضة، عاجزة، أو عقيم لا تلد! ونسأل: كيف تكون حياة الرجل في هذا السجن الرهيب المخيف؟
بل كيف تكون حياة المرأة نفسها مع هذا الرجل، الذي يراها في تلك الحال حكما أبديا عليه بالشقاء والبلاء؟ إن المرأة في هذه الحال تكون أشقى من الرجل، إذ تجد نفسها أنها لعنة مفروضة على الرجل، وأنه لو كان لها الخيار في إفساح الطريق له لما ترددت في حلّ الرباط الذي يربطها به، ولطالبته بذلك قبل أن يطالبها هو به! ثم انظر ما ذا يكون من العواطف الإنسانية، التي يوقظها هذا الشعور الذي يسيطر على الزوجين في ظل التشريع الإسلامى الذي أباح لهما الانفصال، في تلك الحال، كما أباح للرجل أن يتزوج بأخرى، يضمها إلى زوجه الأولى.
إن كلّا منهما يجد أنه في سعة من أمره، وأنه يملك وجوده وإرادته، كما أنه يحتفظ بمروءته وشخصيته.. فالرجل إذا احتفظ بامرأته في حالها تلك، ولم يتزوج عليها، أرضى جوانب كثيرة من عواطفه، تعوّضه كثيرا مما يلقى من ضيق وضرر معها.. والمرأة تشعر بأنها غير مفروضة عليه، وأنه أمسك بها بمحض اختياره، وآثر ألا يضارّها بأخرى حسب إرادته وتقديره.
وأن الجانب الإنسانى فيهما هو الذي يمسك برباط الحياة الزوجية بينهما.
وإذن، فهذا التعدّد الذي يشنّع به أعداء الإسلام على الإسلام، وينادون به على الملأ أنه من الموروثات البهيمية التي ورثها الإنسان عن الحيوان- هذا التعدد هو دواء لأدواء كثيرة، في محيط المرأة خاصة.. في أغلب الأحيان، كما أنه شفاء لبعض العلل التي تصاب بها الحياة الزوجية في بعض الأحيان! وهذا الدواء الذي يقدّمه الإسلام هنا ليس مفروضا فرضا لازما على كل إنسان، وفى كل حال، بل إنه- شأنه شأن كل دواء- محكوم بحكم الحاجة، وبحسب الحالة.
فمن خرج به عن هذا الحكم- حكم الدواء عند الحاجة- فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود اللّه، وليس على الإسلام، ولا على شريعة الإسلام شيء من عدوانه وظلمه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8